ويخلط كثير من الناس بين كلمة "الأتراك" وكلمة "العثمانيين"، فيعتقد أنهما مترادفتان، ولكن الحقيقة أن كل العثمانيين أتراك، ولكن العكس ليس صحيحًا؛ فهناك الكثير من الأتراك ليسوا عثمانيين، وما العثمانيون إلا فرع محدود من قبائل الأتراك العظيمة، والتي ظهر منها رموز خالدة في تاريخنا، أمثال ألب أرسلان السلجوقي، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وأحمد بن طولون، وغيرهم وغيرهم.
فالأتراك هم الشعوب التي تعيش في منطقة وسط آسيا وجبال القوقاز وحول بحر قزوين، وقد هاجر بعضها إلى أماكن بعيدة، كالعثمانيين الذين هاجروا إلى آسيا الصغرى (تركيا الآن)، ولكن الجميع ما زال يحتفظ بجذوره التركية الأصيلة، ولعل هذا يوضِّح لنا تفاعل الشعب التركي -على وجه الخصوص- مع قضية المسلمين في الصين؛ وذلك لاتفاق الجذور العرقية معهم، فضلاً عن العاطفة الإسلامية المتزايدة في تركيا في ظل وجود الزعيم الإسلامي الموفَّق أردوجان.
يُقسِّم المؤرخون أرض الترك إلى قسمين كبيرين هما التركستان الشرقية (وهي الواقعة داخل الأراضي الصينية الآن)، والتركستان الغربية وهي مساحات شاسعة جدًّا من الأرض تضم بين طياتها الآن عدة دول هي كازاخستان وأوزبكستان والتركمنستان وقيرغيزستان وطاجكستان، وأجزاء من أفغانستان، وكذلك أجزاء من إيران، إضافةً إلى الشيشان وداغستان الواقعتيْن تحت الاحتلال الروسي.
دخول الإسلام تركستان
وقد وصل الإسلام قديمًا جدًّا في عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما إلى التركستان الغربية، ودخلت هذه الشعوب في دين الله أفواجًا، ومن التركستان الغربية انتقلت قوافل الدعاة والتجار إلى منطقة التركستان الشرقية، وكذلك إلى الصين، ودخل عدد من هؤلاء في الدين الإسلامي.
وفي عهد الخلافة الأموية وصل عدد البَعثات الإسلامية المرسلة إلى الصين إلى 16 بعثة تدعوهم إلى الله U، ثم حدث التطور النوعي والنقلة الهائلة عندما وصلت جيوش المسلمين الفاتحين بقيادة القائد المسلم الفذّ قتيبة بن مسلم الباهليّ إلى التركستان الشرقية، ليفتحها بإذن الله، ويدخل عاصمتها كاشغر، وليتعرف أهل البلاد -وهم من الإيجور الأتراك- على الإسلام من قرب، ثم يسارعوا في الدخول إلى دين الله؛ لتصبح منطقة التركستان الشرقية إقليمًا إسلاميًّا خالصًا، وكان هذا الفتح العظيم في سنة 96هـ/ 714م في أواخر أيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
ومن هذا الإقليم المسلم بدأت قوافل الدعاة تتحرك في المنطقة، فدخلت جنوبًا إلى إقليم التبت، وبدأ أهل التبت يتعرفون على الإسلام ويعتنقونه، بل أرسلوا إلى والي خراسان الجرَّاح بن عبد الله في زمن الخليفة الأمويّ العظيم عمر بن عبد العزيز يطلبون إرسال الفقهاء إلى التبت لتعليمهم الإسلام.
ومن إقليم التركستان الشرقية كذلك انتقلت وفود الدعاة إلى الصين؛ مما زاد من عدد المسلمين في داخل الصين، إضافةً إلى 12 بعثة إسلامية أرسلتهم الخلافة العباسية؛ مما أدى إلى تعريف الناس بالإسلام بشكل أكبر.
والجدير بالذكر أنه في هذه المراحل الأولى كان يتعايش المسلمون في المجتمع الصيني أو في التبت مع البوذيين والديانات الأخرى بشكل سلميّ دون مشاكل دينية أو سياسية، كما كان يُحسِن المسلمون في إقليم التركستان الشرقية إلى الأعداد الكبيرة من الوثنيين الذين كانوا يعيشون معهم في نفس الإقليم من منطلق القاعدة الإسلامية الأصيلة "لا إكراه في الدين".
إسلام ستوق بغراخان وانتشار الإسلام
وفي سنة 323هـ/ 943م حدثت طفرة هائلة في إقليم التركستان الشرقية عندما أسلم "ستوق بغراخان خاقان" زعيم القبيلة القراخانية الإيجورية التركية، وبإسلام هذا الرجل العظيم دخلت في الإسلام أكثر من مائتي ألف عائلة تركية، مما يعني أكثر من مليون إنسان في لحظة واحدة! وهو يُذكِّرنا بموقف الصحابي الجليل سعد بن معاذ t عندما أسلمت الأوس بإسلامه.
|
دولة التركستان الشرقية |
قويت بذلك دولة التركستان الشرقية جدًّا، وبدأت في الارتقاء الحضاري المتميز، وزاد الأمر قوة في عهد حفيد ستوق، وهو هارون بغراخان، الذي تلقب بشهاب الدولة، وكذلك بظهير الدعوة، وقد أوقف خُمس الأراضي الزراعية لإنشاء المدارس لتعليم الإسلام، وأكثر من ذلك فقد كتب اللغة التركستانية -وكذلك اللهجة الإيجورية- بالحروف العربية، وكان هذا تقدمًا عظيمًا في تمسك أهل التركستان بالإسلام، حيث أصبحت قراءة القرآن والأحاديث النبوية والمراجع الإسلامية متيسرة لهم بشكل أكبر. وفي سنة 435هـ/ 1043م استطاع الإيجوريون إقناع عشرة آلاف عائلة من عائلات القرغيز الأتراك بدخول الإسلام، وكانت إضافةً قوية جدًّا لدولة التركستان، وكانت دولة التركستان في ذلك الوقت تخطب للخليفة العباسي القادر بالله على منابر المساجد، وضربوا العملة باسمه، مع أنه لم يكن له سيطرة فعليَّة على البلاد، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك من منطلق إسلامي، ورغبة في توحيد الصف المسلم.
الاجتياح التتري
|
الاجتياح التتري |
ظل الأمر كذلك حتى ابتُلِي العالم بمصيبة كبرى وهي الطاغية المغولي جنكيز خان سنة 603هـ/ 1206م، وقد توسع بسرعة رهيبة في البلاد المحيطة، وذلك انطلاقًا من منغوليا، وقد تلقت التركستان الشرقية الصدمة التترية الأولى، وحدثت فيها عدة مذابح، ودخلت بسرعة في سلطان التتار، خاصةً أن العالم الإسلامي بشكل عام كان يعاني من الضعف الشديد. وعندما مات جنكيز خان حدثت بعض الصراعات بين أتباعه، وانتهى الأمر إلى تقسيم مملكة التتار الواسعة إلى أجزاء عدة، وما يهمنا الآن من هذه الأجزاء جزآن؛ أما الجزء الأول فهو الذي يضم منغوليا والتركستان الشرقية، وكان على رأسه "أريق بوقا"، وهو من أسرة أوكيتاي المغولي، وهذا الجزء يضم دولة التركستان الشرقية بكاملها، وقد تحسنت علاقة التتر بالمسلمين مع مرور الوقت، بل وصل الأمر إلى أن اعتنق أحد زعمائهم وهو "طرما تشيبرين" الإسلام، وبالتالي دخلت أعداد كبيرة من المغول في دين الإسلام، وهو من العجائب في التاريخ حيث يدخل المحتلون القاهرون في دين المستضعفين المهزومين، وهذه عظمة الإسلام وقوة حجته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون! وكان هذا التحول إلى الإسلام في سنة 722هـ/ 1322م.
وبالمناسبة فهذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها المغول إلى الإسلام، فقد دخل قبل ذلك أحد زعمائهم الكبار وهو بركة خان إلى الإسلام، وأسلمت معه قبيلته المعروفة بالقبيلة الذهبية، وكانوا يعيشون في منطقة القوقاز في وسط آسيا.
No comments:
Post a Comment