بعد ثلاث سنوات كاملة من الدعوة السرِّيَّة وزيادة عدد المسلمين إلى نحو الستِّين، أَذِن الله U لرسوله r بالجهر بالدعوة، لتبدأ نَقْلَة جديدة في مرحلة الإعداد، وفيها أُمر الرسول r بأن يبدأ بأقربائه ثم بقيَّة الناس، وهنا جمع الرسول r أقربائه وبلغوا خمسة وأربعين رجلاً ليدعوهم، إلا أن عمَّه أبا لهب ابتدره بقوله: "هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلَّم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة". فسكت الرسول r ولم يتكلم في هذا الجمع.
ثم جمعهم r مرة ثانية وبادرهم بالحديث قائلاً: "الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأُؤْمِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"، ثم قال:"إِنَّ الرَّائِدَ لاَ يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً وَإِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا الْجَنَّةُ أَبَدًا أَوِ النَّارُ أَبَدًا". وهنا أعلن عمُّه أبو طالب أنه سيقف بجانبه ناصرًا ومؤيِّدًا إلا أنه لن يترك دين عبد المطلب، بينما كان موقف أبي لهب على العكس تمامًا حيث قال: "هذه والله السوءَة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم"[20]!
ثم نزل الأمر القرآني المباشر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، فكان ذلك إيذانًا بإعلان الدعوة للناس عامَّة، والإعراض عن المشركين، بمعنى عدم قتالهم وتجنُّب الصدام معهم، فاستجاب رسول الله r مباشرة، وخرج ينادي قبائل قريش جميعًا من على جبل الصفا، ويقول لهم: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنْ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغْيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا. فقال r: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ".
فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]"[21].
وعلى الرغم من يقين مشركي مكة من صدق رسول الله r، ومعرفتهم أن ما جاء به هو الحق إلا أنهم لم يؤمنوا، وقد تعدَّدت الموانع في ذلك عندهم، ما بين مَن منعته التقاليد كأبي طالب، ومَن منعه الجبن كأبي لهب، ومن منعته القبلية كأبي جهل، ومن منعه الكبر والعناد، ومن منعه خوفه على ضياع السيادة والحُكم في قومه، وغير ذلك، وهم لم يكتفوا بهذا، بل بدءوا يُخَطِّطون ويُدَبِّرون للكَيْد لرسول الله r وللمسلمين، وسلكوا في ذلك سبلاً شتَّى ووسائل متعدِّدة، اتَّسمت المرحلة الأولى في ذلك بالسلم، ثم أخذت طابع المفاوضات، وانتهت بالإيذاء والتنكيل بالمؤمنين ليردُّوهم عن دينهم، والذي لم يَزد المسلمين إلا إصرارًا على الحقِّ، وصبرًا على الإيذاء، وضربوا في تلك المحنة أروع الآيات في الصبر وَتَحَمُّلِ الأذى في سبيل الله U.
وكان بلال بن رباح t ممَّن تَلَظَّى بسلسلة مضنية من التعذيب على يد أُمَيَّة بن خلف، وعلى نفس الدرب كان ياسر وزوجه سميَّة والدا عمار بن ياسر y، فقد وقعا تحت يدي رأس الكفر أبي جهل لعنه الله، فعذبهما تعذيبًا شديدًا حتى قُتِلا في بيت الله الحرام جَرَّاءَ التعذيب والتنكيل، ومثلهم كان خَبَّابُ بن الأَرَتِّ t، وكان المشركون يَجُرُّونَه من شعره ليضعوه على الفحم الأحمر الملتهب، ثم يضعون الصخرة العظيمة على صدره حتى لا يستطيع أن يقوم، وكذلك السيدة زِنِّيرَة والنَّهْدِيَّة وابنتها وأم عُبَيْسٍ رضي الله عنهن، حتى تحوَّلت مكة إلى سجن كبير تُهان فيه الإنسانيَّة، ويرتع فيه وحوش الكفر.
[20] انظر: الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/322، 323، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/585.
[21] البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء (4492)، عن ابن عباس t.
اللهم صلى على محمد رسولك و حبيبك
نقلا عن موقع قصة الاسلام للفائدة
No comments:
Post a Comment